فصل: باب الجهاد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي للفتاوي ***


تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد حمد الله غافر الزلات ومقيل العثرات والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنزل عليه في كتابه العزيز ‏(‏أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏)‏ وعلى آله وصحبه النجوم 0النيرات فهذا جزء سميته ‏(‏تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء‏)‏ والسبب في تأليفه أنه وقع أن رجلا خاصم رجلا فوقع بينهما سب كثير فقذف أحدهما عرض الآخر فنسبه الآخر إلى رعي المعزى فقال له ذاك تنسبني إلى رعى المعزى فقال له والد القائل الأنبياء رعوا المعزى أو ما من نبي إلا رعى المعزة، وذلك بسوق الغزل بجوار الجامع الطولوني بحضرة جمع كثير من العوام فترافعوا إلى الحكام فبلغ الخبر قاضي القضاة المالكي فقال لو رفع إلى ضربته بالسياط فسئلت ماذا يلزم الذي ذكر الأنبياء مستدلا بهم في هذا المقام فأجبت بأن هذه المستدل يعزر التعزير البليغ لأن مقام الأنبياء أجل من أن يضرب مثلا لآحاد الناس ولم أكن عرفت من هو القائل ذلك فبلغني بعد ذلك أنه الشيخ شمس الدين الحمصاني أمام الجامع الطولوني وشيخ القراء وهو رجل صالح في اعتقاده فقلت مثل هذا الرجل تقال عثرته وتغفر زلته ولا يعزر لهفوة صدرت منه وكتبت ثانيا بذلك فبلغني أن رجلا استنكر مني هذا الكلام وقال إن هذا القائل لا ينسب إليه في ذلك عثرة ولا ملام وإن ذلك من المباح المطلق لا ذنب فيه ولا أثام واستفتى على ذلك من لم تبلغه واقعة الحال فخرجوه على ما ذكره القاضي عياض في مذاكرة العلم لأجل ذكر لفظ الاستدلال في الجواب والسؤال فخشيت أن تشرب قلوب العوام هذا الكلام فيكثروا من استعماله في المجادلات والخصام ويتصرفوا فيه بأنواع من عباراتهم الفاسدة فيؤديهم إلى أن يمرقوا من دين الإسلام فوضعت هذه الكراسة نصحا للدين وإرشادا للمسلمين والسلام‏.‏ ولنبدأ بالفصل الذي ذكره القاضي عياض في الشفا في تقرير ذلك فإنه جمع فيه فأوعى وحرر فاستوفى قال فصل الوجه الخامس‏:‏ أن لا يقصد نقصا ولا يذكر عيبا ولا سبا ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدين على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره أو على التشبه به أو عند هضيمة نالته أو غضاضة لحقته ليس على طريق التأسي وطريق التحقيق بل على قصد الترفيع لنفسه أو غيره أو سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه الصلاة والسلام أو قصد الهزل والتندير بقوله كقول القائل إن قيل في السوء فقد قيل في النبي وإن كذبت فقد كذب الأنبياء أو إن أذنبت فقد أذنبوا وأنا أسلم من ألسنة الناس ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله أو قد صبرت كما صبر أولو العزم أو كصبر أيوب أو صبر نبي الله على عداه وحكم على أكثر مما صبرت وكقول المتنبي‏:‏

أنا في أمة تداركها اللـ *** ـه غريب كصالح في ثمود

ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام كقول المعري‏:‏

كنت موسى وافته بنت شعيب *** غير أن ليس فيكما بفقير

على أن آخر البيت شديد وداخل في باب الإزراء والتحقير بالنبي عليه الصلاة والسلام وتفضيل حال غيره عليه، وكذلك قوله‏:‏

لولا انقطاع الوحي بعد محمد *** قلنا محمد من أبيه بديل

هو مثله في الفضل إلا أنه *** لم يأته برسالة جبريل

فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد لتشبيهه غير النبي صلى الله عليه وسلم في فضله بالنبي صلى الله عليه وسلم والعجز محتمل لوجهين أحدهما أن هذه الفضيلة نقصت الممدوح والآخر استغناؤه عنها وهذه أشد، ونحو منه قوله الآخر‏:‏

وإذا ما رفعت راياته *** صفقت بين جناحي جبرئيل

وقول الآخر من أهل العصر‏:‏

فر من الخلد واستجار بنا *** فصبر الله قلب رضوان

وكقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ووزيره أبي بكر بن زيدون‏:‏

كأن أبا بكر أبو بكر الرضا *** وحسان حسان وأنت محمد

إلى أمثال هذا، وإنما كثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك واستخفافهم فادح هذا العبء وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر وكلامهم فيه بما ليس لهم به علم ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم لا سيما الشعراء وأشدهم فيه تصريحا وللسانه تسريحا ابن هانئ الأندلسي وابن سليمان المعري بل قد خرج كثير من كلامهما عن هذا إلى حد الاستخفاف والنقص وصريح الكفر وقد أجبنا عنه، وغرضنا الآن الكلام في هذا الفصل الذي سقنا أمثلته فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سبا ولا أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصا ولست أعني عجزي لبيتي المعري ولا قصد قائلها إزراء وغضا فما وقر النبوة ولا عظم الرسالة ولا عزر حرمة الاصطفاء ولا عزز حظوة الكرامة حتى شبه من شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء منها أو ضرب مثل لتطبيب مجلسه أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره وشرف قدره والزم توقيره وبره ونهى عن جهر القول له ورفع الصوت عنده فحق هذا أن درئ عنه القتل الأدب والسجن وقوة تعزيزه بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله أو ندوره أو قرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به وقد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله‏:‏

فإن يك باقي سحر فرعون فيكم *** فإن عصا موسى بكف خصيب

وقال له يا ابن اللخناء أنت المستهزئ بعصا موسى وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته إلى أن قال فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه من طريق الفتيا، على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس وأصحابه ففي النوادر من رواية ابن أبي مريم في رجل عير رجلا بالفقر فقال تعيرني بالفقر وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم فقال مالك قد عرض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضعه أرى أن يؤدب، قال ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا قد أخطأت الأنبياء قبلنا، وقال عمر بن عبد العزيز لرجل انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا فقال كاتب له قد كان أبو النبي كافرا فقال جعلت هذا مثلا فعزله وقال لا تكتب لي أبدا، وقد كره سحنون أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب إلا على طريق الثواب والاحتساب توقيرا له وتعظيما كما أمرنا الله، وقال القابسي عن رجل قال لرجل قبيح كأنه وجه نكير ولرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء وإن قصد ذم الملك قتل، وقال أيضا في شاب معروف بالخير قال لرجل شيئا فقال له الرجل اسكت فإنك أمي فقال الشاب أليس كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا فشنع عليه مقاله وكفره الناس وأشفق الشاب مما قال وأظهر الندم عليه فقال أبو الحسن أما إطلاق الكفر عليه فخطأ لكنه مخطئ في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه وسلم وكون النبي أميا آية له وكون هذا أميا نقيصة وجهالة ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم لكنه إذا استغفر وتاب واعترف ولجأ إلى الله فيترك لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل وما طريقه الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه، ونزلت أيضا مسألة استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور في رجل تنقصه آخر بشيء فقال له إنما تريد نقصي بقولك وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي صلى الله عليه وسلم فأفتاه بإطالة سجنه وإيجاع أدبه إذ لم يقصد السب وكان بعض الفقهاء بالأندلس أفتى بقتله هذا كله كلام القاضي عياض في الشفا‏.‏ ويفطن لقوله في أول الفصل على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره كيف سوى في الحكم بين ضارب المثل والمحتج، والمحتج هو المستدل ومراده المستدل في الخصومات والتبري من المعرات، وكذلك قوله ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله فإن الاستشهاد بمعنى الاستدلال وكذلك قوله في آخر الفصل لكنه مخطئ في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم فهذه المواضع كلها صريحة في تخطئة المستدل في مثل هذا المقام ووجوب تأديبه، وإنما نبهت على هذا لأنه أنكر على ذكر لفظ المستدل في الإفتاء وليس بمنكر فإن المستدل تارة يكون في مقام التدريس والإفتاء والتصنيف وتقرير العلم بحضرة أهله وهذا لا إنكار عليه كما سيأتي وتارة يكون في الخصام والتبري من معرة أو نقص ينسب إليها هو أو غيره وهذا محل الإنكار والتأديب لاسيما إذا كان بحضرة العوام وفي الأسواق وفي التعارض بالسب والقذف ونحو ذلك ولكل مقام مقال ولكل محل حكم يناسبه، وكذلك الأثر الذي أشار إليه القاضي عن كاتب عمر بن عبد العزيز فإنه ما قصد بما ذكره إلا الاحتجاج على أنه لا ينقصه كفر أبيه والاستدلال عليه ومع ذلك أنكره عليه عمر وصرفه عن عمله، أخبرني شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين بن شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني الشافعي رحمه الله إجازة عن أبيه شيخ الإسلام أن الشيخ تقي الدين السبكي أخبره عن الحافظ شرف الدين الدمياطي أنا الحافظ يوسف بن خليل أنا أبو المكارم اللبان أنا أبو على الحداد أنا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا أحمد بن الحسن الحذاء ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال سمعت بعض شيوخنا يذكر أن عمر بن عبد العزيز أتى بكاتب يخط بين يديه وكان مسلما وكان أبوه كافرا فقال عمر للذي جاء به لو كنت جئت به من أبناء المهاجرين فقال الكاتب ما ضر رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر أبيه فقال عمرو قد جعلته مثلا لا تخط بين يدي بقلم أبدا - هكذا أخرجه في الحلية فالكاتب قصد بهذا الكلام الاحتجاج والاستدلال على نفي النقص عنه وقد قال عمر في الرد عليه إنه جعله مثلا فعلم أن المستدل لا منافاة بينه وبين ضارب المثل، والجامع بينهما أن ضرب المثل يراد للاستشهاد كما أن الاستدلال كذلك فبهذا القدر المشترك يصح إطلاق المستدل على ضارب المثل وعكسه، ومن له إلمام بالأحاديث والآثار وكلام المتقدمين لا يستنكر ذلك فإنهم كثيرا ما يطلقون ضرب المثل على الحجة، ولهذا سوى بينهما القاضي عياض حيث قال على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره ومما أطلق فيه الأولون ضرب المثل على الحجة ما أخرجه ابن ماجه وغيره عن أبي سلمة أن أبا هريرة قال لرجل يا ابن أخي إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلا تضرب له الأمثال وكان عارضه بقياس من الرأي كما في بعض طرق الحديث عند الهروي في ذم الكلام أي فلا تقابله بحجة من رأيك فأطلق أبو هريرة على الحجة والاستدلال ضرب المثل، واللغة أيضا تشهد لذلك قال في الصحاح ضرب مثلا وصف وبين وقال ابن الأثير في النهاية ضرب الأمثال اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به، وإنما حكمت في الإفتاء على لفظ المستدل وعللته بضرب المثل لأعرف أن المستدل الذي حكمت عليه هو المحتج بضرب ذلك مثلا للغير لا المستدل في الدرس والتصنيف ومذاكرة العلم بين أهله فإن ذلك لا يسمى في عرف العلماء ضرب مثل وقصدت أيضا الاقتداء بالخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز في لفظه، وقد وجدت للقصة طريقا آخر قال الهروي في ذم الكلام أنا أبو يعقوب أنا أبو بكر بن أبي الفضل أنا أحمد بن محمد بن يونس ثنا عثمان بن سعيد ثنا يونس العسقلاني ثنا ضمرة ثنا علي بن أبي جميلة قال قال عمر ابن عبد العزيز لسليمان بن سعد بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا زنديق قال هو ما يضره ذلك يا أمير المؤمنين قد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم كافرا فما ضره فغضب عمر غضبا شديدا وقال ما وجدت له مثلا غير النبي صلى الله عليه وسلم قال فعزله عن الدواوين، ومما وقع في عبارة العلماء من إطلاق ضرب المثل على الاستدلال ما وقع في عبارة ابن الصلاح في جزئه الذي ألفه في صلاة الرغائب حيث ذكر إنكار الشيخ عز الدين بن عبد السلام لها وقال أنه ضرب له المثل بقوله ‏(‏أرأيت الذي ينهي عبدا إذا صلى‏)‏ وأما الفصل السابع من الشفا الذي قال المعترض أن المسألة فيه فنذكره ليعلم من علم واقعة الحال أنه غير مطابق لها قال القاضي عياض‏:‏ الوجه السابع أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أو يختلف في جوازه عليه وما يطرأ من الأمور البشرية له ويمكن إضافتها إليه أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه وأذاهم له ومعرفة ابتداء حاله وسيرته وما لقيه من بؤس زمنه ومر عليه من معاناة عيشته كل ذلك على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت عنه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم فهذا فن خارج عن الفنون الستة إذ ليس فيه غمض ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده ويحقق فوائده ويجنب ذلك من عساه لا يفهمه أو يخشى به فتنة فقد كره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف لما انطوت عليه من تلك القصص لضعف معرفتهن ونقص عقولهن وإدراكهن هذا كلام القاضي في الفصل السابع فانظر كيف فرض المسألة في رواية الحديث ومذاكرة العلم ثم لم يطلق ذلك بل قيده بأن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء الطلبة، وهذه الواقعة لم تكن في مذاكرة العلم ولم يحضرها طالب علم البتة بل كانت في السباب والخصام في سوق الغزل بحضرة جمع من التجار والدلالين والسوقة وكلهم عوام وأكثرهم سفهاء الألسنة يطلقون ألسنتهم في كثير من الأمور بما يوجب سفك دمائهم ولا يعلمون عاقبة ذلك فيقال لمن أنكر ما أفتيت به إن لم تعرف عين الواقعة فأنت معذور وقولك لا تعزير ولا عثرة ان أردت فيما وقع في مجلس الدرس ومذاكرة العلم بين أهله فمسلم وليس هو صورة الواقعة وإن أردت ما وقع في السوق بالصفة المشروحة فمعاذ الله وحاشى المفتين أن يقولوا ذلك، وبعد هذا كله فلست أقصد بذلك غضا من القائل ولا حطا عليه فإني أعتقد دينه وخيره وصلاحه وإنما هي بادرة بدرت وزلة فرطت وعثرة وقعت فليستغفر الله منها ويتوب إليه ويندم على ما وقع منه ولا يعود، ولا يقدح ذلك في صلاحه فإن الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال في قواعده من ظن أن الصغيرة تنقص الولاية فقد جهل وقال إن الولي إذا وقعت منه الصغيرة فإنه لا يجوز للأئمة والحكام تعزيره عليها، ونص الشافعي رضي الله عنه على أن ذوي الهيئات لا يعزرون للحديث وفسرهم بأنهم الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة فيترك، وفسرهم بعض الأصحاب أنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر وفسرهم بعضهم بأنهم الذين إذا وقع منهم الذنب تابوا وندموا، والأحاديث الواردة في إقالة ذوي الهيئات عثراتهم كثيرة أخرج أحمد في مسنده والبخاري في الأدب وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود وأخرجه النسائي من وجه آخر بلفظ تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة، وأخرجه باللفظ الأول الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود، وابن عدي في الكامل من حديث أنس، وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث زيد بن ثابت بلفظ تجافوا عن عقوبة ذي المروءة إلا في حد من حدود الله، وأخرجه في المعجم الأوسط من حديث ابن عباس بلفظ تجافوا عن ذنب السخى فإن الله آخذ بيده كلما عثر، وأخرجه بهذا اللفظ من حديث ابن مسعود الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية، وقال الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه طريق المعدلة في قتل من لا وارث له‏:‏ قول الأصحاب إن من قتل قتيلا لا وارث له فللسلطان الخيرة بين أن يقتص منه أو يعفو عن الدية وليس له العفو مجانا كأنهم ذكروه على الغالب، وقد يظهر للإمام من المصلحة ما يقتضي العفو عنه مجانا إذا كان لا مال له ولا يقدر على الكسب وفيه صلاح وخير ونفع للمسلمين ولكن فرطت منه تلك البادرة فقتل بها وظهرت توبته وحسنت طريقته فالقول بأن هذا لا يجوز للإمام العفو عنه بعيد لا سيما إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى ذلك القدر الذي يؤخذ منه فالرأي عندي أن يكون ذلك مفوضا إلى رأي الإمام والإمام يجب عليه فيما بينه وبين الله أن لا يختار إلا ما فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين ولا يقدم على سفك دم مسلم بمجرد ما يقال له إن هذا جائز فجوازه منوط بظهور المصلحة فيه للمسلمين ولإقامة الدين لا لحظ نفسه ولا لغرض من أغراض الدنيا وحيث شك في ذلك يتعين الكف عن الدم وتبقية ذلك الشخص لأنه نفس معصومة إلا بحقها فمتى قتلها من غير مرجح أخشى عليه أن يدخل فيمن قتلها بغير حقها انتهى كلام السبكي‏.‏ فإذا جوز السبكي العفو عمن فيه صلاح وخير ونفع للمسلمين من القتل قصاصا مجانا بلا دية فمن تعزير زلة فرطت منه من باب أولى وهذا لا شبهة فيه‏.‏ ‏(‏عود لبدء‏)‏ قال ابن السبكي في كتابه الترشيح قال الشافعي رضي الله عنه في بعض نصوصه وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لها شرف فكلم فيها فقال لو سرقت فلانة لامرأة شريفة لقطعت يدها قال ابن الشبكي فانظر إلى قوله فلانة ولم يبح باسم فاطمة تأدبا معها رضي الله عنها أن يذكرها في هذا المعرض وإن كان أبوها صلى الله عليه وسلم قد ذكرها لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن دال على أن الخلق عنده في الشرع سواء انتهى‏.‏ فهذا من صنع الشافعي ثم من تقرير السبكي أصل في هذه المسألة ونقل من حيث مذهبنا فقوله تأدبا يدل على أن ضده خلاف الأدب وقوله لأن ذلك منه صلى الله عليه وسلم حسن يدل على أنه من غيره قبيح هذا مع كون الشافعي رضي الله عنه إنما ساق الحديث مساق الاحتجاج على المسائل الشرعية ومساق تقرير العلم في التصنيف الذي لا يقف عليه إلا أهله بل لو صرح بالاسم في مثل هذا المحل لم يكن فيه شيء، وأمر آخر أن النقص المذكور واقع في حيز ‏"‏لو‏"‏ منفي عنها لا مثبت لها وإنما ذكر على سبيل الفرض الذي لا سبيل إلى وقوعه فكيف يظن بالشافعي أنه يخالف ما قرره المالكية في المسألة التي نحن فيها، وإنما ذكرت هذا الكلام لأن قائلا قال هذا الذي أفتيت به مذهب المالكية وليس بمنصوص في مذهبك، وكذا يقع لأهل العصر كثيرا يدعون علينا في فتاوى كثيرة أنها مخالفة للمذهب بمجرد كونها غير منصوصة لا بنفي ولا بإثبات كما وقع لنا في العام الماضي حين أفتينا بهدم الدار التي بنيت برسم الفساد فادعوا أن ذلك خلاف المذهب بمجرد كون الأصحاب لم ينصوا عليها على أن الغزالي وغيره أشاروا إليها كما بيناه في التأليف الذي ألفناه فيها، ثم نقول في هذه وغيرها قولهم ما أفتيت به خلاف المذهب مستدلين على ذلك بعدم وجود المسألة منصوصا عليها معارض بأنا نقول لهم ما أفتيتم أنتم به أيضا خلاف المذهب لأن المسألة غير منصوص عليها فكما استندتم إلى العدم في نسبة الخلاف إلى استندت إلى العدم في نسبته إليكم فإن الإثبات والنفي كلاهما حكم شرعي يحتاج إلى دليل أو نقل فإن قالوا أخذناه من القواعد قلت وأنا أيضا أخذت من القواعد وعلى بيان ذلك لمن يريد الإنصاف فمن قال التعزير في هذه المسألة خلاف المذهب لأن الأصحاب لم ينصوا عليها أقول له فهل نص الأصحاب على أنه لا تعزير فيها حتى تقدم على القول به وتنسبه إلى مذهب الشافعي، وكذلك من قال القول بهدم الدار الموصوفة بالصفات التي شرحتها في تأليفها خلاف المذهب لأنه لم ينص عليها أقول له فهل نصوا على أنها لا تهدم حتى استندت إليه وإذا حصل الاستواء في الجانبين من حيث عدم النص وجدت النقول في المذاهب بأحدهما والأدلة ثابتة عيه من الأحاديث والآثار وجب الوقوف عنده وعدم التجاوز إلى الجانب الآخر إذا لم يكن في قواعد مذهبنا ما يخالفه، وقد وقع في فتاوى ابن الصلاح أنه سئل عن مسألة لا نص فيها للأصحاب فأفتى فيها بالمنصوص في مذهب أبي حنيفة وبين ذلك، وقرر النووي في شرح المهذب مسألة لا نقل فيها عندنا وأجاب فيها بمذهب الحسن البصري وقال أنه ليس في قواعدنا ما ينفيه، وسئل البلقيني عن مسألة فقال لا نقل فيها عندنا وأجاب فيها بما ذكره القاضي عياض في المدارك وذكر بعض الأصحاب مسألة لا نقل فيها عندنا وأفتى فيها بالمنقول في مذهب الحنابلة، وذكر الزركشي في الخادم مسألة مسح الخف للمحرم وقال لا نقل فيها وأجاب بالمنقول في مذهب المالكية في أشياء كثيرة لا تحصى وقد استوعبتها في كتابي الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع، ومسألة الهدم نص عليها أئمة المذاهب الثلاثة وأشار إليها الغزالي وطائفة وثبتت فيها الأحاديث الصحيحة والآثار الكثيرة عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وغيرهم سلفا وخلفا قولا وفعلا ولا نص في مذهبنا يخالف ذلك إلا قولهم إنه لا تعذير بإتلاف المال، وهذه القاعدة مخصوصة ليست على عمومها بدليل قولهم إنه لا يكسر آنية الخمر والأواني المثمنة إذا كان فيها صورة إلى غير ذلك فعلم أن القاعدة مخصوصة بما لم يتعين إتلافه طريقا لإزالة الفساد، وتقرير ذلك بإيضاحه يستدعى طولا وقد بسطته في التأليف المشار إليه، وكذلك نقول في هذه المسألة قد نص أئمة المالكية على التعزير فيها ولم ينص أصحابنا على خلافه ولا في قواعد مذهبنا ما ينفيه فوجب الوقوف عنده والعمل به وهذا النص الذي أوردناه عن الشافعي رضي الله عنه يصلح أصلا في المسالة وتقرير السبكي له وإيضاحه زاده بيانا وحسنا وسأتتبع ذلك من نصوص الشافعي والأصحاب في كتبهم في الفقه وشروحهم للحديث ما أراه مقويا لذلك فاذكره‏.‏

‏(‏فصل‏)‏ قال الرافعي في الشرح وتبعه في الروضة في باب <ص 0الردة في كتب أصحاب أبي حنيفة اعتناء تام بتفصيل الأقوال والأفعال المقتضية للكفر وأكثرها مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه فنذكر ما يحضرنا في كتبهم، ثم سردها الرافعي وتبعه في الروضة وتعقبا جملة منها، ثم قال الرافعي وتبعه في الروضة بعد الفراغ من سردها: وهذه الصور تتبعوا فيها الألفاظ الواقعة من كلام الناس وأجابوا فيها اتفاقا واختلافا بما ذكر ومذهبنا يقتضي موافقتهم في بعضها وفي بعضها يشترط وقوع اللفظ في معرض الاستهزاء وقد بين ذلك فهذا من الشيخين صريح فيما قررناه من الفتوى بما نص عليه في المذاهب بقية الأئمة فيما لا نص فيه عندنا ولا في قواعد مذهبنا ما ينفيه، ثم قال النووي في الروضة من زوائده عقب ذلك قلت قد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفا جملة من الألفاظ المكفرة غير ما سبق نقلها عن الأئمة أكثرها مجمع عليه، ولخص ما في الشفا من ذلك فهذا من النووي عين ما جنحنا إليه بل هو نص صريح في مسألتنا هذه بعينها، وقال في الروضة تبعا للرافعي فيما نقله عن كتب أصحاب أبي حنيفة واختلفوا فيمن قال رؤيتي إليك كرؤية ملك الموت وأكثرهم على أنه لا يكفر، زاد النووي قلت الصواب إنه لا يكفر، وهذه إحدى الصور التي ساقها القاضي عياض في الفصل الخامس فإذا كان فيها قول بالتكفير فلا أقل من التعزير إذا لم يكفر.

(فصل) قال سعيد بن منصور في سننه ثنا هشيم ثنا مغيرة عن إبراهيم قال كانوا يكرهون أن يتناولوا شيئا من القرآن عندما يعرض من أحاديث الدنيا قيل لهشيم نحو قوله (جئت على قدر يا موسى) قال نعم، وقد صرح العماد الينهي من أصحابنا بهذا الحكم فقال بمنع ضرب الأمثال من القرآن نقله ابن الصلاح في فوائد رحلته، والينهى هذا من تلامذة البغوي، وهذا شاهد لما نحن فيه فكما أن الأدب ن لا يضرب كلمات القرآن مثلا لواقعة دنيوية فكذلك الأدب أن لا تضرب أحوال الأنبياء مثلا لحال غيرهم.

(فصل) وسئل شيخ الإسلام والحفاظ قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر بما نصه: ما قول أئمة الدين في هذه الموالد التي يصنعها الناس محبة في النبي صلى الله عليه وسلم غير أن بعض الوعاظ يذكرون في مجالسهم الحفلة المشتملة على الخاص والعام من الرجال والنساء ماجريات هي مخلة بكمال التعظيم حتى يظهر من السامعين لها حزن ورقة فيبقى في حيز من يرحم لا في حيز من يعظم، من ذلك أنهم يقولون أن المراضع حضرن ولم يأخذنه لعدم ماله الا حليمة رغبت في رضاعه شفقة عليه، ويقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرعى غنما وينشدون:

بأغنامه سار الحبيب إلى المرعى *** فيا حبذا راع فؤادي له يرعى

وفيه: فما أحسن الأغنام وهو يسوقها، وكثير من هذا المعنى المخل بالتعظيم فما قولكم في ذلك؟ فأجاب بما نصه: ينبغي لمن يكون فطنا أن يحذف من الخبر ما يوهم في المخبر عنه نقصا ولا يضره ذلك بل يجب هذا جوابه بحروفه.

(فصل) ومما يدخل في هذا الباب ما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن مطرف قال ليعظم جلال الله في صدوركم فلا تذكروه عند مثل قول أحدكم للكلب اللهم اخزه وللحمار وللشاة.

(فصل) قال السهيلي في الروض الأنف بعد أن أورد حديث إن أبي وأباك في النار ما نصه: وليس لنا أن نقول نحن هذا في أبويه صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات والله تعالى يقول: (إن الذين يؤذون الله ورسوله الآية).

(فصل) رعي الغنم لم يكن صفة نقص في الزمن الأول لكن حدث العرف بخلافه ولا يستنكر ذلك قرب حرفة هي نقص في زمان دون زمان وفي بلد دون بلد، ويشهد لذلك كلام الفقهاء في الكفاءة في النكاح وفي المروءة في الشهادات والمسألة مسطورة حتى في المنهاج، ثم إن الخصم لم يخرج هذه الكلمة إلا مخرج الشتم والتنقيص حيث قال وأنت يا راعي المعزى صار لك كلام، ومثل هذا الموطن لا يحتج فيه بأحوال الأنبياء أبدا خصوصا بين العوام هذا لا يقوله من يعلم أنه يلقى الله تعالى، وقد تذكرت هنا نكتة لطيفة قال الشيخ تاج الدين ابن السبكي في الترشيح كنت يوما في دهليز دارنا في جماعة فمر بنا كلب يقطر ماء يكاد يمس ثيابنا فنهرته وقلت يا كلب يا ابن الكلب وإذا بالشيخ الإمام يعني والده الشيخ تقي الدين السبكي يسمعنا من داخل فلما خرج قال لم شتمته فقلت ما قلت إلا حقا أليس هو بكلب ابن كلب فقال هو كذلك إلا أنك أخرجت الكلام في مخرج الشتم والإهانة ولا ينبغي ذلك فقلت هذه فائدة لا ينادي مخلوق بصفته إلا إذا لم يخرج مخرج الإهانة هذا لفظه في الترشيح.

(فصل): المماراة في مثل هذا الموضع والتدليس وقصد الانتقام بالضغائن الباطنة لا يضر إلا فاعله ولا يصيب المشنع عليه من ضرره شيء والحق للأنبياء، وقد ذكر السبكي أن تارك الصلاة يخاصمه كل صالح لأن لكل صالح في الصلاة حقا حيث فيها السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وكذلك المدلس في هذه المسألة يخاصمه كل الأنبياء يوم القيامة وعدتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف، وقد قيل ليحيى بن معين أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله فقال لأن يكونوا خصماء لي أحب إلى من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خصمي يقول لي لم لم تذب الكذب عن حديثي، وكذلك أقول لأن يكون كل أهل العصر في هذه المسألة خصمائي أحب إلى من أن يخاصمني نبي واحد فضلا عن جميع الأنبياء.

مسألة:

رجل حكم بحكم فأنكره عليه قضاة بلده فقال له سلطان البلد ارجع عن هذا الحكم فإنه لم يوافقك عليه أحد فأبى وحلف أنه لا يرجع لقول أحد ولو قام الجناب العالي عليه الصلاة والسلام من قبره ما سمعت له حتى يريني النص فهل يكفر بهذا، ثم قال بعد مدة لو سبني نبي مرسل أو ملك مقرب لسببته، وصار يفتي العامة والسوقة بجواز هذا.

الجواب:

أما قوله الأول وهو قوله لا يرجع لأحد ولو قام صلى الله عليه وسلم من قبره ما سمع له حتى يريه النص فهذا له ثلاثة أحوال الأول أن يكون هذا صدر منه على وجه سبق اللسان وعدم القصد وهذا هو الظن بالمسلم واللائق بحاله ولعله أراد مثلا أن يقول ولو قام مالك من قبره فسبق لسانه إلى الجناب الرفيع لحدة حصلت عنده فهذا لا يكفر ولا يعزر إذا عرف بالخير قبل ذلك ويقبل منه دعوى سبق اللسان ولا يكتفي منه في خاصة نفسه بذلك بل عليه أن يظهر الندم على ذلك وينادي على نفسه في الملأ بالخطأ ويبالغ في التوبة والاستغفار ويحثو التراب على رأسه ويكثر من الصدقة والعتق والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر والاستقالة من هذه العثرة، الحال الثاني أن لا يكون على وجه سبق اللسان ولا على وجه الاعتقاد الذي يذكره المصمم فيقول مثلا لو أمرني الإنس والجن بهذا ما سمعت لهم ولو روجع في خاصة نفسه لقال ما أردت ظاهر العبارة ولو قام النبي صلى الله عليه وسلم من قبره حقيقة وقال لي لبادرت إلى امتثال قوله وسمعت من غير تلعثم ولا توقف ولكن هذه عبارة قلتها على وجه المبالغة لعلمي بأن قيامه الآن من قبره وقوله لي غير كائن وهو محال عادة فهذا لا يكفي ولكنه أتى بعظيم من القول فيعزل من الحكم بين المسلمين ويعزر تعزيرا لائقا به من غير أن ينتهي إلى حد القتل، الحال الثالث أن بعظيم من القول فيعزل من الحكم بين المسلمين ويعزر تعزيرا لائقا به من غير أن ينتهي إلى حد القتل، الحال الثالث أن يكون على وجه الاعتقاد بحيث يعتقد في نفسه أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حيا وقال له الحكم بخلاف ما حكمت لم يسمع له وهذا كفر نعوذ بالله منه قال الله تعالى (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يجب الكافرين) وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وقصة الذي حكم له النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرض بحكمه وجاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليحكم له فقتله عمر بالسيف مشهورة وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، والعجب من قوله ما سمعت له حتى يريني النص وقوله صلى الله عليه وسلم نفسه هو النص فأي نص يريه بعد قوله، والظن بالمسلم إنه لا يقول ذلك عن اعتقاد والله أعلم. وأما قوله الثاني فمن أخطأ الخطأ وأقبحه وأشد من قول هذه المقالة في السوء الإفتاء بإباحتها فأما أصل المقالة وهو أن يقول قائل لو سبني نبي أو ملك لسببته فالجواب فيها كما قال ابن رشد وابن الحاج أنه يعزر على ذلك التعزير البليغ بالضرب والحبس وأما إباحته للناس أن يقولوا ذلك فمرتبة أخرى فوق ذلك في السوء لأنه إغراء للعامة على ارتكاب الحرام أو استحلاله وغض من منصب الأنبياء والملائكة عليهم السلام وكيف يتصور أن يباح هذا لأحد والأنبياء عليهم السلام معصومون فلا يسبون إلا من أمر الشرع بسبه ومن سب بالشرع لم يجز له أن يسب سابه فالمسألة مستحيلة من أصلها فالجواب ردع هذا الرجل وزجره وهجره في الله وعليه التوبة والإنابة والإقلاع.

باب الجهاد

مسألة‏:‏

في الرمي بالنشاب على نية الجهاد في سبيل الله هل هو واجب لمطلق الأمر في قوله تعالى ‏(‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏)‏ والقوة مفسرة من النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي أم لا، وإذا لم يكن واجبا فهل الصارف عن ذلك قول من قال من الصحابة الآية منسوخة، وإذا قلتم بسنيته فهل ذلك من باب أن الأمر بالوجوب إذا انتفى ما يبقى الندب أو قطع النظر عن الآية بالكلية لدعوى نسخها وأخذت السنية من فعل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الجواب‏:‏

نقول مذهبنا إن الرمي بالنشاب على نية التأهب للجهاد سنة لا واجب ولا مباح مستوى الطرفين هكذا نص عليه الأصحاب، وإذا نظرنا إلى مقتضى الأدلة من الآية والأحاديث وجدناها تدل على ذلك ولا تتعداه، وبيان ذلك أن نقول الأمر في الآية الكريمة له أربعة احتمالات‏:‏ أحدها أن تكون للإرشاد كما في قوله تعالى ‏(‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏)‏ وهذا الاحتمال ضعيف لكثرة الأحاديث الواردة في الترغيب في الرمي وترتيب الثواب عليه ومثل ذلك لا يكون إلا فيما أمر به على وجه الندب أو الوجوب لا على وجه الإرشاد كحديث ‏"‏تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة‏"‏ وحديث ‏"‏الرمي سهم من سهام الإسلام‏"‏ الثاني أن يكون للندب وهو المدعى لأنه في صيغة الأمر أظهر من الإرشاد فيها وإذا انتفى الوجوب بالطريق الآتي بقي الندب لأنه القدر المتيقن من صيغة الطلب ولا نافي له بل الأحاديث الآمرة والمرغبة مثبتة له، الثالث أن يكون للوجوب ولا شك أنه بعيد من لفظ الآية لأن صيغة الأمر لم تنصب عليه بخصوصه إنما انصبت على المستطاع من قوة الصادق بالرمي وبغيره كما هو مدلول لفظ ‏"‏ما‏"‏ التي موضوعها العموم لغة وشرعا وكما ورد بذلك التفسير عن الصحابة والتابعين أخرج ابن مردويه في تفسيره وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب السبق والرمي من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏)‏ قال الرمي والسيوف والسلاح، وأخرج أبو الشيخ عن مخلد بن يزيد قال سألت الأوزاعي عن قوله تعالى ‏(‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏)‏ قال القوة سهم فما فوقه، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق عباد بن جويرية عن الأوزاعي قال سألت الزهري عن قوله تعالى ‏(‏وأعدو لهم ما استطعتم من قوة‏)‏ قال قال سعيد ابن المسيب قال القوة الفرس إلى السهم فما دونه، وأخرج عن مقاتل بن حيان قال القوة السلاح وما سواه من قوة الجهاد، وأخرج عن عكرمة قال القوة الحصون، وأخرج عن مجاهد قال القوة ذكور الخيل، وأخرج عن رجاء بن أبي سلمة قال لقي رجل مجاهدا وهو يتجهز إلى الغزو ومعه جوالق فقال مجاهد وهذا من القوة فهذه أقوال الصحابة والتابعين صريحة في أن المراد من الآية ما هو أعم من الرمي وغيره، وأما الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ألا إن القوة الرمي‏"‏ فليس المراد منه حصر مدلول الآية فيه بل المراد أنه معظم القوة وأعظم أنواعها تأثيرا ونفعا على حد قوله ‏"‏الحج عرفة‏"‏ أي معظم أعمال الحج وليس المراد أنه لا ركن للحج سواه كما هو معروف، وقد فهم هذا الفهم مكحول من التابعين فقال في تفسير الآية الرمي من القوة أخرجه ابن المنذر في تفسيره، وإذا تقرر ذلك كان القول بوجوب الرمي أخذا من الأمر في الآية لا على معنى أنه واجب بعينه بل من باب إيجاب شيء لا بعينه كما قال الفقهاء في خائف العنت أنه يجب عليه التعفف ولا يقال إن النكاح في حقه واجب على معنى أنه واجب بعينه بل على معنى أن السعي في الإعفاف واجب إما بالنكاح وإما بالتسري فإيجاب النكاح عليه من باب إيجاب شيء لا بعينه، وما كان من هذا القبيل إذا حكم عليه بعينه قيل إنه سنة ولهذا أطلق أصحاب المختصرات قولهم النكاح سنة لمحتاج إليه بحد أهبته، وكذلك هنا الواجب إعداد ما ينتفع به في القتال ويدفع به العدو إما الرمي أو غيره وإذا حكم على الرمي بعينه قيل إنه سنة كما صرح به الأصحاب فعرف بذلك وجه قولهم إنه سنة وإنه ليس لكون الآية منسوخة بل لهذه القاعدة الأصولية التي أشرنا إليها‏.‏ الاحتمال الرابع أن الأمر قد يكون في الآية ليس لكل الناس بل لقوم مخصوصين وهم المرصدون للجهاد المنزلون في ديوان الفيء فيكون واجبا عليهم من حيث أنهم ارتزقوا أموال الفيء على ن يقوموا بدفع الكفار عن المسلمين فوجب عليهم السعي في تحصيل ما يحصل به الدفع، ويؤيد هذا ما ورد أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي وهذا الوجوب من باب إيجاب ما لا يتم الواجب إلا به كإيجاب نصب السلم عند إيجاب صعود السطح وليس من باب الوجوب المطلق، وهو أيضا إذا نظر إليه في حد ذاته لم يحكم عليه بخصوصه إلا بالنسبة كغسل بعض الرأس والرقبة مع الوجه في الوضوء فإنه من باب مقدمة الواجب ويطلق عليه الوجوب لأجل تحقق استيعاب الوجه وإذا نظر إليه في حد ذاته كان سنة لأن الواجب الأصلي في الوضوء غسل الوجه لا بعض الرأس والرقبة فاتضح بهذا قول الأصحاب أنه من قسم السنة لا من قسم الواجب ولا المباح المستوى الطرفين والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

في أي سنة كان فرض الجهاد‏.‏

الجواب‏:‏

روى أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن فنزلت ‏(‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا - الآية‏)‏ قال أبو بكر فعرفت أنه سيكون قتال قال ابن عباس فهي أول آية نزلت في القتال، قال ابن الحصار من أئمة المالكية في كتابه الناسخ والمنسوخ استنبط بعضهم من هذا الحديث أنها نزلت في سفر الهجرة، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن مجاهد قال خرج ناس مؤمنون مهاجرين من مكة إلى المدينة فاتبعهم كفار قريش فأذن الله لهم في قتالهم فأنزل الله ‏(‏أذن للذين يقاتلون - الآية‏)‏ فقاتلوهم، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس أن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس فذكر القصة قال فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة بمكة ثم أذن الله له بالخروج إلى المدينة وأمرهم بالهجرة وافترض عليهم القتال فأنزل الله ‏(‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية‏)‏ فكان هاتان الآيتان أول ما نزل في الحرب، وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير قال إن أول آية نزلت في الجهاد حين ابتلى المسلمون بمكة وسطت بهم عشائرهم ليفتنوهم عن الإسلام وأخرجوهم من ديارهم فأنزل الله ‏(‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا - الآية‏)‏ وذلك حين أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالخروج وأذن لهم بالقتال، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان قال إن مشركي أهل مكة كانوا يؤذون المسلمين بمكة فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم بمكة فلما خرج إلى المدينة أنزل الله ‏(‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏)‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله ‏(‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏)‏ قال أذن لهم في قتالهم بعد ما عفى عنهم عشر سنين، هذه الآثار كلها متضافرة على أن ذلك كان في السنة الأولى من الهجرة غير أن هذه الآية مبيحة لا موجبة، وقد نص الإمام الشافعي رضي الله عنه على أن القتال كان قبل الهجرة ممنوع ثم أبيح بعد الهجرة ثم وجب بآيات الأمر فلعل الإيجاب كان في آخر السنة الأولى أو أول السنة الثانية وفيها كان مبدأ الغزوات، وذكر القاضي عياض أن فرض الجهاد العام كان عام الفتح سنة ثمان في براءة لقوله تعالى ‏(‏وقاتلوا المشركين كافة‏)‏ وهذا لا ينافي ما سبق لأن فرضيته قبل ذلك كانت مخصوصة وهذا الآية فرضت على العموم، وقد روى النسائي والحاكم عن ابن عباس أن ناسا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أزلة قال إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله ‏(‏ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم - الآية‏)‏ وهذا أيضا ظاهر في أن فرض القتال كان في سنة الهجرة، وفي بعض طرق الحديث فلما كانت الهجرة وأمروا بالقتال كره القوم ذلك فأنزل الله الآية، ثم رأيت ابن سعد في الطبقات ذكر أن أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمسة في رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره وبعثه في ثلاثين رجلا لغير قريش ثم بعث سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ في شوال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره وبعثه في ستين رجلا ثم بعث سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من مهاجره وبعثه في عشرين رجلا فهذا كله يدل على أن فرض الجهاد كان في السنة الأولى من الهجرة والله أعلم‏.‏

كتاب الصيد والذبائح

مسألة‏:‏

في الرمي بالبندق في الفلوات على الطيور هل يجوز أولا مع أنه لا يحصل لأحد به ضرر‏.‏

الجواب‏:‏

مذهبنا ومذهب أكثر العلماء أن الصيد المقتول بالبندق لا يحل أكله وأنه داخل في الموقوذة إلا أن يدركه وفيه حياة مستقرة وأما الرمي بالبندق فالأصل فيه حديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال إنه لا يصاد به صيد ولا ينكى به عدو ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين فذهب أكثر العلماء إلى أن هذا النهي للتحريم وهو المعروف من مذهبنا صرح به مجلي في الذخائر وأفتى به الشيخ عز الدين بن عبد السلام وجزم به ابن الرفعة في الكفاية وعبارته‏:‏ القتل بالبندق لا يحل المقتول لأنه يقتل الصيد لقوة راميه لا بحده ولا يحل الرمي به لأن فيه تعريض الحيوان للهلاك انتهى‏.‏ وقيل إنه يجوز لأنه طريق إلى الاصطياد وقال شيخ الإسلام ابن حجر التحقيق التفصيل فإن كان الغالب من حال الرامي أنه يقتله به امتنع وإلا جاز لا سيما إن كان الرامي لا يصل إليه إلا بذلك ثم لا يقتله غالبا، وقال الحسن البصري يكره رمي البندق في القرى والأمصار، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة فجعل مدار النهي على خشية إدخال الضرر على أحد من المسلمين، والله أعلم‏.‏

باب الأطعمة

مسألة‏:‏

هل يحل أكل البطارخ وهل هو نجس أم طاهر‏.‏

الجواب‏:‏

المنقول في الجواهر للقمولي أنه لا يجوز أكل سمك ملح ولم ينزع ما في جوفه فإن كان البطارخ بهذه الصفة فهو حرام، ومن نسب العفو إلى الروضة فهو غالط لأن الذي في الروضة‏:‏ هل يحل أكل السمك الصغار إذا شويت ولم يشق ما في جوفها ويخرج ما فيه‏؟‏ فيه وجهان وجه الجواز عسر تتبعها، وعلى المسامحة جرى الأولون فإن الروياني بهذا أفتى ورجيعها طاهر عندي انتهى‏.‏ وهذه غير المسألة لأنه فرضها في الصغار وعلل الجواز بعسر التتبع وهو مفقود في الكبار‏.‏

كتاب الأيمان

مسألة‏:‏

في رجل حلف شهد الله أو يشهد الله أو أضاف قوله وحق هل تنعقد يمينه وتلزمه الكفارة إذا حنث أم لا، وما إذا حلف بالجناب الرفيع وأراد به الله‏.‏

الجواب‏:‏

لا نقل عندي في ذلك، والذي يظهر في شهد الله ويشهد الله أنه ليس بيمين وفي الأذكار للنووي ما يشهد لذلك فإنه ذكر ما معناه أن من الناس من يتورع عن اليمين فيعدل إلى قوله شهد الله فيقع في أشد من ذلك من حيث أنه نسب إلى الله تعالى أنه شهد الشيء وعلمه على خلاف ما هو عليه وكذا لو ضم إليه قوله وحق شهد الله إلا إن أراد بشهد المصدر فيكون معناه وحق شهادة الله أي علمه فيكون والحالة هذه يمينا لأنه حلف بالعلم وإطلاق الفعل وإرادة المصدر سائغ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏)‏ أي يوم نفعهم، وقول الشاعر‏:‏

من جفان تعتري نادينا *** بسديف حين هاج الصنبر

أي حين يهيج الصنوبر‏.‏ وإذا حلف بالجناب الرفيع وأراد به الله فهو يمين بلا شك‏.‏

مسألة‏:‏

رجل حلف لا يشارك أخاه في هذه الدار وهي ملك أبيهما فمات الوالد وانتقل الإرث لهما وصارا شريكين فهل يحنث الحالف بذلك أم لا‏.‏ وهل استدامة الملك شركة تؤثر أم لا‏.‏

الجواب‏:‏

أما مجرد دخولها في ملكة بالإرث فلا يحنث به وأما الاستدامة فمقتضى قواعد الأصحاب أنه يحنث بها‏.‏

كتاب الأضحية

مسألة‏:‏

وردت من المغرب فيما ذكره الشيخ أبو عبد الله البلالي في مختصر الإحياء حيث قال في كتاب الأضحية وتتأكد الأضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بحثنا عن هذا الفرع في كتب السادة المالكية فما وجدنا ما يثلج الصدر ويزيل اللبس فكتبنا لكم فيه لتبينوا لنا أصله من السنة‏.‏

الجواب‏:‏

قال الإمام أحمد في مسنده ثنا أسود بن عامر قال ثنا شريك عن أبي الحسناء عن أبي الحكم عن حنش عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه أبدا، وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش عن علي قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضحي عنه بكبش فأنا أحب أن أفعله، وقال أبو داود في سننه ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش قال رأيت عليا يضحي بكبشين فقلت له ما هذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه، وقال الترمذي في جامعه وابن أبي الدنيا معا ثنا محمد بن عبيد المحاربي الكوفي ثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش عن على أنه كان يضحي بكبشين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه فقيل له فقال أمرني به يعني النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدعه أبدا، قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك انتهى، وقد نص على هذه المسألة بخصوصها من المالكية القاضي أبو بكر ابن العربي في الأحوذي، ومن أصحابنا الشافعية أبو الحسن العبادي والقفال في فتاويه وجزم القفال بأنه لا يجوز للمضحى أن يأكل منها شيئا وكذا قال ابن العربي وعلله بأن الذابح لم يتقرب بها عن نفسه وإنما تقرب بها عن غيره فلم يجز له أن يأكل من حق الغير شيئا، وكذا نقله الترمذي في جامعه عن ابن المبارك قال فإن ضحى فلا يأكل منها شيئا ويتصدق بها كلها، قال البلقيني في تصحيح المنهاج‏:‏ حديث على إن صح محمول على أنه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب الدعوى والبينات

مسألة‏:‏

ثلاثة وضعوا أيديهم بالسوية على دار فادعى أحدهم أنه يملك جميعها وأقام بينة شهدت له بذلك ثم ادعى الثاني أنه يملك ثلثي الدار وأقام بينة بذلك ثم ادعى الثالث أنه يملك ثلث الدار وأقام بينة بذلك فماذا يفعل الحاكم‏.‏

الجواب‏:‏

لكل منهم ثلثها لأن بينة كل منهم شهدت له بما في يده وشهدت للأولين بزيادة فلم تثبت الزيادة من أجل المعارضة أما مدعى الكل فلان بينته في الزائد معارضة ببينة مدعى الثلثين في الثلثين وبينة مدعي الثلث في الثلث فتساقطا وسقطت دعواه في الثلثين، وأما مدعى الثلثين فلأن بينته في الزائد معارضة ببينة مدعى الكل فيه فتساقطا وسقطت دعواه بالثلث الزائد وأما مدعى الثلث فبينته لم تشهد بزيادة على ما في يده ولا يعارضها بينة مدعى الثلثين بل عارضها مدعى الكل ولكن اليد مرجحة فاستقر لكل منهم الثلث الذي في يده، وهل هذا الاستقرار باليد فقط أو بها وبالبينة معا فيه كلام طويل ليس هذا محله‏.‏

حسن التصريف في عدم التحليف

وقع في هذه الأيام أنني استفتيت عن رجل أقر بأنه استأجر أرضا من مالكها وأنه رأى وتسلم وأشهد على نفسه بذلك ثم عاد بعد مدة وأنكر الرؤية وطلب يمين المؤجر بذلك فهل له ذلك‏.‏ فأجبت بأن له تحليفه على التسليم لا على الرؤية، ثم بلغني عن بعض المفتين أنه أجاب بأن له التحليف في الرؤية أيضا فكتبت له أن هذا الأمر تأباه القواعد فلا يقبل إلا بنقل صريح وفرق بينه وبين مسألة القبض فكتب لي ما ملخصه أن ذلك معلوم من عموم وخصوص أما العموم فقولهم أن كلما لو أقر المدعى عليه به نفع المدعى تجوز الدعوى به وتسمع، أما الخصوص فقول المنهاج في باب الإقرار لو أقر ببيع أو هبة وإقباض ثم قال كان فاسدا وأقررت لظني الصحة لم يقبل وله تحليف المقر له، قال ولم يفرق الأصحاب بين علة فساد وعلة قال وإذا حلف بعد إقرار المدعي بالبيع فتحليفه عند انتفاء شرطه أولى قال ويشهد لذلك تصحيح الأسنوي أن القول قول منكر الرؤية وموافقته على أن القول قول من قال أن المبيع معلوم والفرق أن دعوى عدم الرؤية أقرب إلى الصدق من دعوى كونه غير معلوم ومنكر الرؤية معه أصل وظاهر فظهر أن القواعد ما تأبى ذلك قال ونحن في الجواب ما خرجنا على مسألة القبض ولو خرجنا صح التخريج لكن لا معنى للتخريج مع النقل من العموم والخصوص هذا آخر كلامه‏.‏ فلما وقفت عليه رأيته لم يحم حول الحمى وهو في غاية الفساد فكتبت إليه ما صورته‏:‏ وقفت على ما سطره مولانا فوجدت فيه مؤاخذات وكنا أردنا الإغضاء عن ذلك كما هو دأبنا مع أكثر الناس ثم قوى العزم على ذكر ذلك لأن أكثر إعراضنا إنما هو عن الجاهلين كما أمر الله لا عن مثلكم فمن ذلك قولكم أن كل ما لو أقر المدعى عليه به نفع المدعى تجوز الدعوى به وتسمع فجوابه أن هذه القاعدة ليست على عمومها وإنما هي أكثرية، ومن ذلك استدلالكم على مسألتنا بمسألة الإقرار بالبيع المذكورة في المنهاج وهذا أمر عجيب يطول التعجب منه وما ظننت أن مثل هذا يلتبس على آحاد الناس فضلا عنكم وأشد من ذلك دعواكم أنه نقل خاص في المسألة وليس بخاص بل ولا عام فشتان ما بين المسألتين وإن بينهما لأشد المباينة وإن بينهما من الفرق كما بين القدم والفرق بل كما بين حضيض الثرى ومناط الثريا، وبيان ذلك أن مسألة المنهاج صورتها فيمن أقر بعقد إجمالي مشتمل على جزئيات وصفات وشروط فعاد ولم يكذب نفسه ولكن أنكر شرطا من شروطه أو شيئا من لوازمه أو صفة من صفاته قائلا معتذرا لم أظن أن فواته يفسد العقد فلهذا سمحنا له بالتحليف لأن مثل هذا قد يخفي عليه، وأما مسألتنا هذه فصورتها أنه أقر على نفسه أنه رأى ما شهد عليه بذلك ثم عاد وأنكر ذلك بالكلية وأكذب نفسه بلا عذر ولا تأويل فأين هذه المسألة من تلك أيقاس على رجل أقر بعقد مجمل ثم لم ينكر ما وقع منه وإنما أنكر شيئا من لوازمه كالرؤية مثلا وهو لم يتعرض لها في إقراره الأول ولا ذكرها من صرح بإقراره بالرؤية ثم عاد يكذب نفسه ولا عذر له في ذلك لا ولا كرامة ولا نعمة عين، وقولنا ولا عذر له ولا تأويل احترزت به عن مسألة القبض فإنه فيها أقر بالقبض ثم عاد وأكذب نفسه فيه لكن بعذر وتأويل لأنه جرت العادة بتأخير القبض عن العقد وإن الناس يقرون به لأجل رسم القبالة ليقبضوا بعد ذلك ولا كذلك الرؤية فإنه لم تجر العادة ولا الشرع بتأخيرها عن العقد حتى نقول إنه أقر بها لأجل رسم القبالة ليرى بعد ذلك هذا فرق ما بينهما فقد علم بهذا أن مسألة الرؤية تفارق مسألة القبض وإن كانت تشبهها وأنها قياس مسألة البيع المذكورة في المنهاج بكل وجه لأن الإقرار في مسألة البيع بأمر عام أنكر منه جزئية خاصة من لوازمه مع بقائه على وقوع أصل العقد المقر به لكن بفقد شرط من شروطه ومسألتنا هذه الإقرار فيها وقع بجزئية خاصة لا غير ثم عاد وأنكرها فلا يعذر في ذلك ولا يقبل رجوعه ولا يسمح له بالتحليف كما هو شأن الأقارير غالبا وإنما كان يصلح لكم أن تستدلوا بمسالة المنهاج لو كانت الصورة أنه أقر بعقد إجارة فقط ولم يتعرض للرؤية ولا غيرها ثم عاد وقال لم أر فهذه هي التي يقال فيها له التحليف وأنها داخلة في مسألة المنهاج وأما صورتنا هذه فلا، وإنما نظير صورتنا هذه أن يقر ببيع ورؤية ثم يعود ويقول لم أر فتقولون في هذه أن له التحليف إن قلتم لا فهو المقصود وإن قلتم نعم قلنا لكم لا نقل في ذلك والقواعد تأباه فإن المسألة التي استندتم إليها في المنهاج ليس صورتها أنه صرح بالإقرار بالرؤية مع الإقرار بالبيع وإنما صورتها أنه أقر بالبيع من غير تعرض لذكر شروطه من رؤية أو غيرها ثم عاد وأنكر الرؤية، ومن العجب قولكم أن الأصحاب لم يفرقوا بين علة فساد وعلة فإن هذا إنما يمشي معكم في أمر عام له شرط فواته مفسد لم يذكره عند الإقرار ثم عاد وذكره، وأما الإقرار بالرؤية الذي هو مسألتنا فليس شيئا عاما له شرط فواته يفسده وإنما هو أمر خاص أقر به ثم عاد وأنكره فلا يسمع فثبت بهذا أن بين مسألتنا ومسألة المنهاج بونا عظيما وإن قولنا في مسألة إنكار الرؤية بعد الإقرار بها ليس له التحليف هو الذي يقتضيه النظر الصحيح والتخريج الصحيح الرجيح فلا يعدل عنه إلا بنقل صريح فحينئذ نقبله ونقول إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل‏.‏

باب الشهادات

مسألة‏:‏

قراء يقرؤون القرآن بأصوات حسنة محترزين من الزيادة والنقص فيه عالمين بأحكام القراءة فهل يمنعون من ذلك‏.‏

الجواب‏:‏

قراءة القرآن بالألحان والأصوات الحسن والترجيع إن لم تخرجه عن هيئته المعتبرة سنة حسنة وإن أخرجته فحرام فاحش هذا منقول المذهب صرح به النووي في الروضة والتبيان، ويدل للشق الأول أحاديث منها حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الفتح في السفر يرجع فيها ويقول آ آ آ، ومنها حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم ورواه الدارمي والبيهقي بلفظ ‏(‏حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا‏)‏ ومنها حديث فضالة بن عبيد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏لله أشد أذانا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته‏)‏ رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، ومنها حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن‏)‏ رواه الشيخان وأذن بمعنى استمع، وفي معناه حديث سعد بن أبي وقاص وابن عباس وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏)‏ على أحد التأويلين في الحديث وهو في المستدرك، وفي لفظ عن سعد ‏(‏أن هذا القرآن نزل محزن فإذا قرأتموه فابكوا وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا‏)‏ رواه البيهقي في شعب الإيمان، ومنها حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى فقال ‏(‏لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود‏)‏ رواه مسلم، ويدل للشق الثاني ما رواه البيهقي عن ابن عباس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس قراءة فقال ‏(‏من إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله‏)‏ وما رواه أيضا عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتاب فإنه سيجيء قوم يرجعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانية لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم‏)‏ وروى أيضا عن عابس الغفاري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر خصالا يتخوفهن على أمته من بعده إمارة السفهاء واستخفافا بالدم وقطيعة الرحم وكثرة الشرط ونشوا يتخذون القرآن مزامير يتغنون غناء يقدمون الرجل بين أيديهم ليس بأفضلهم ولا أعلمهم لا يقدمونه إلا ليغنى لهم، وروى الدارمي عن الأعمش قال قرأ رجل عند أنس يلحن من هذه الألحان فكره ذلك أنس، وروى عن محمد بن سيرين قال كانوا يرون هذه الألحان في القراءة محدثة، والأحاديث والآثار في الشقين كثيرة وفيما أوردناه كفاية‏.‏